التجرد للحق
عندما يعظم الحق في عين المؤمن حتى يكون أحب إليه من نفسه يصير عندئذ بغيته ولا يبالي أظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، ولا يبالي أن يُعرف الحق به أو بغيره، ولا يبالي إن تقدم غيره بالحق وتأخر هو به. عندما يَخلُصَ المؤمن من نفسه خلوصا تاما فذلك هو التجرد لله..
وليس من شيء يدل على التجرد ويوضحه من ضرب الأمثلة عليه ومواقف الصالحين فيه، فلا كلمات تشرحه مثل المواقف التي تدل عليه، فهي التي تنطق به:
• نقل الإمام ابن العربي المالكي-رحمه الله-(ت 543هـ) عن محمد بن قاسم العثماني غير مرة قال: وصلتُ الفُسْطاط مرةً فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري, وحضرت كلامه على الناس فكان مما قال في أول مجلس جلستُ إليه:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تَبِعْتُه حتى بلغتُ معه إلى منزله في جماعة، وجلس معنا في الدِّهْلِيز، وعرَّفهم أمري، فإنه رأى شارة الغربة ولم يَعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي:
أراك غريباً هل لك من كلام؟
قلت: نعم. قال لجلسائه أفرجوا له عن كلامه.
فقاموا وبقيت وحدي معه.
فقلت له: حضرتُ المجلس اليوم متبركاً بك، وسمعتك تقول آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقت، وطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وصدقت، وقلتَ: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمني إلى نفسه وقَبَلَ رأسي وقال لي:
أنا تائبٌ من ذلك جزآك الله عني من معلمٍ خيراً!
ثم انقلبت عنه وبكَّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني فألفيته قد سبقني إلى الجامع وجلس على المنبر فلما دخلتُ من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته:
مرحباً بمعلمي! أفسحوا لمعلمي!!, فتطاولت الأعناق إليَّ وحدقت الأبصار نحوي-وتعرفني يا أبابكر يشير إلى عظيم حيائه فإنه كان إذا سلَّم عليه أحد أو فاجأه خَجِل لعظيم حيائه واحمر حتى إن وجهه طلي بجلَّنار-، قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر وأنا لعظيم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاصٌ بأهله وأسال الحياء بدني عرقاً.
وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم وهذا معلمي!، لمَّا كان بالأمس قلت لكم آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلق وظاهر فما أحدٌ منكم فَقُهَ عني ولا ردَّ عليَّ فاتبعني إلى منزلي وقال لي:
كذا وكذا، -وأعاد ما جرى بيني وبينه- وأنا تائب عن قولي بالأمس راجعٌ عنه إلى الحق فمن سمعه ممن حضر فلا يعوِّل عليه ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيراً, وجعل يحفل في الدعاء والخلق يؤَمنون.
قال ابن العربي معلقاً: فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ من رجلٍ ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته لغريبٍ مجهول العين لا يعرف مَنْ؟ ولا مِنْ أين؟ فاقتدوا به ترشدوا!! (أحكام القرآن, لابن العربي المالكي)
يقول الشافعي رحمه الله: ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يجري الله الحق على لسانه.
"يقول ابو حامد الغزالي رحمه الله تعالى
التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له"
اللهم اجعلنا مخلصين لك، متجردين لخدمة دعوتك، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وإذا أردت بالقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.