حكمة : مرآة الحب عمياء.

أمير مصر وداهية العرب

عمرو بن العاص بن وائل السهمي.

داهية قريش، وأرطبون العرب، وأمير مصر.

.

كان عمرو من المعدودين دهاء وجرأة ورأيًا وثقة بالنفس مع فصاحة وحسن بيان‏.‏ ذكر محمد بن سلام الجمحي أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى رجلًا يتلجلج في كلامه يقول‏:‏ خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد‏.

جمع عمرو‏ صفاتا كثيرة لم تجتمع لكثير من الصحابة وإن كان كثير منهم أفضل منه إيمانا وأسبق منه في الإسلام، وكان أبرز تلك الصفات ثقته بنفسه ورباطة جأشه في أعصب الأوقات، فكان لذلك يتصدر للقيادة، حتى عُرف عنه أنه كان محبا للإمارة وما كان ذلك إلا بسبب ثقته العالية في قدراته. وكان لها أهل، فقد ولّاه رسول الله صلى الله رسول الله عليه وسلم أميرا على الصحابة في احدى السرايا، وولّاه أميرا على الصدقة.

.

أما عن دهائه فهو من أدهى الدهاة، وقد عدل بدهائه كفة الحرب في صفين بعد أن كادت الهزيمة تقع بجيش أهل الشام، فأشار برفع المصاحف على أسنة الرماح، وقد كان يعلم أن في جيش عليّ رضي الله عنه من لا يستقيم له في طاعته، ويخالفه إن رأى عليّ رضي الله عنه رأيا غير رأيه، وهذا ما حدث، فقد دب الخلاف في جيش عليّ رضي الله عنه ولم يطيعوه حين قال لهم إنما هي خدعة، فما كان ليُخدع رضي الله عنه، ولكنهم خالفوه ودفعوه لقبول التحكيم، وكان لعمرو ما أراد.

.

وكان مع دهائه بعيد النظر، وله في ذلك مواقف كثيرة...

* أنقذ ببُعد نظره المسلمين من وباء عمواس الذي أهلك كثيرا من المسلمين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

قال للمسلمين: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصّنوا منه في الجبال"

وكان يقصد أن هذا الوباء مثل النار يزيد اشتعالا بتجمع الناس إلى بعضهم مثلما تزيد النار اشتعالا إذا تجمع الحطب إلى بعضه، فأمرهم بالتفرق، فارتفع الوباء بفضل عبقريته وبُعد نظره.

* أرسل عثمان رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلى سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر، فجمعهم فشاورهم في أمر الرجال الذين يذيعون الفتنة في البلاد: فأشار كل واحد منهم بما يراه.

فلما استشار عمروا فوجئ بعمرو ابن العاص يقول: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً!

فقال له عثمان رضي الله عنه: ما لك قمل فروك؟ أهذا الجد منك؟

فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني علمت أن بالباب مَن يبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شراً.

.

وكان حازما واثقا من نفسه رضي الله عنه...

* ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيشٍ الى ذات السلاسل، ولم يمض على إسلامه إلا بضعة شهور، ثم طلب مددا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم مددا بقيادة أبو عبيدة بن الجراح وفيه أبو بكر وعمر بن الخطاب والأنصار. وحين حضرت الصلاة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤم الناس فتقدم عمرو فمنعه، وقال له: إنما انت مدد.

فلم يمنعه تأخرَ اسلامِه ألا يستحي ممن سبقوه بكثير أن يؤمهم جميعا في الصلاة وهو يرى نفسه صاحب الأمر الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم تقدم بالجيش فلما اقترب من العدو نهى المسلمين أن يوقدوا نارا، وقد كانت ليلة باردة جدا، وكان ذلك حتى لا ينتبه لوجودهم المشركون، لأن النار تظهر في الليل من بعيد. ثم تقدم بالمسلمين فهجم على أرض عدوه فباغته، ففروا مِن أمامه. وفي تلك الغزوة أصابته جنابة، فقام فتيمم فصلى بالناس ولم يغتسل، والماء موجود.

فلما عاد الصحابة شكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى بهم وهو جنب، فيروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وانت جنب؟ قال عمرو: فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما) (النساء: 29)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.

.

وكان واثقا في حُسن رأيه وتدبيره وسياسته ويدفع عن قراره حتى مع عمر بن الخطاب الذي كان شديدا على الولاة ومحاسبتهم...

* كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏

من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص‏:‏ سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو‏.‏ أما بعد‏:‏

فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج، وكتابك إلى بثنيات الطرق وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج، فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام‏.‏

فكتب إليه عمرو بن العاص‏:

بسم اللّه الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو أما بعد‏:‏

فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أحيد عن الحق وأنكث عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم، ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرًا من أن نخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه والسلام‏.‏

وأما خراجها فجباها عمرو بن العاص أول سنة فتحها عشرة آلاف ألف دينار، وكتب إليه عمر بن الخطاب يعجز رأيه ويقول: جبيت للروم عشرين ألف ألف دينار، فلما كان في العام المقبل جباها اثني عشر ألف ألف دينار.

قال الليث بن سعد رضي اللّه عنه‏:‏ لما جباها عمرو بن العاص رضي اللّه عنه اثني عشر ألف ألف دينار وجباها المقوقس قبله لِسَنة عشرين ألف ألف دينار‏. (وهذا من رفقه رضي الله عنه وحسن سياسته بالقبط، فقد جباها على النصف مما كان يجبيه الروم قبله بسنه واحده)،‏ فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بما كتب.

فلما عزل عثمانُ رضي الله عنه عَمراً منها، وولي عبد الله بن أبي سرح، زاد على القبط في الخراج والمؤن، فبلغت أربعة عشر ألف ألف دينار.

فقال عثمان رضي الله عنه لعمرو. درت اللقحة.

فقال عمرو: وأضررتم بالفصيل.

فما زالت تنقص بعد ذلك.

.

وكان سياسيا لا يُبارى في الحكم والسياسة..

* يكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه ولاية الصدقة بعُمان، بعد أن أرسله إليها رسولا من قبل برسالة يدعو فيها مَلِكيها إلى الإسلام، وكان على رأس عُمان ملك وأخاه، فاستخدم معهما ذكاءه وحسن سياسته حتى استجابا ودخلا في الإسلام. وفي توليه رسول الله صلى الله عليه وسلم له شهادة له على أمانته وحسن تصرفه.

* تولى إمارة فلسطين في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- وكان عمر يعرف له قدره وذكاءه، فكان يقول عنه: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا.

ثم تولى إمارة مصر وما زال واليا عليها بعد وفاة عمر وشطرا من خلافة عثمان بن عفان حتى عزله عثمان في أواخر خلافته، فحينئذ تحركت الفتنة في مصر ووجدت لها سبيلا.

.

وكان قائدا عسكريا فزا، ولكن بأسلوب يختلف عن أسلوب خالد بن الوليد في حروبه..

* يكفي أن رسول الله قد ولّاه على كبار الصحابة في ذات السلاسل ولم يمض على إسلامه إلا بضعة شهور، وتلك منقبة له أن اختاره رسول الله صلى الله وسلم لذلك، وما كان ليختاره إلا أن يكون أهلا لذلك ولشجاعته ودرايته بالحرب.

* يقول عمر بن الخطاب عن عمرو بن العاص لما رأى من تدبيره في الحروب بعقله قبل سيفه: والله إن حربه للينة، ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره...

ولهذه المقولة قصة طريفة تدل على ذكاء عمرو، وأن حربه كانت ممزوجة بالسياسة على غير أسلوب خالد بن الوليد الذي كان قائدا عسكريا صرفا من أعظم القادة العسكريين: -

حين حضرت القبط باب عمرو بعد توالي الهزائم على الروم، بلغ عمراً أنهم يقولون: ما أرثَّ العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم. فخاف أن يطمعهم ذلك( أي يستهينون بالمسلمين فيتجرأوا على التمرد عليهم في المستقبل)، فأمر بجُزر فطبخت، ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم فحضروا عنده وأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير سلاح، فازداد طمع القبط فيهم، وأمر المسلمين أن يحضروا الغد في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ففعلوا، وأذن لأهل مصر أن يدخلوا عليهم فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القُوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر، فارتاب القبط، ثم بعث إلى المسلمين أن تسلحوا للعرض غداً، وغدا على العرض، وأذن للقبط فعرضهم عليهم وهم في السلاح وقال لهم: علمت حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب فخشيت أن تهلكوا ( يقصد بطمعهم واستهانتهم بالعرب فيأبوا أن يدخلوا تحت حكمهم ثم يحاربوهم فيعرضوا أنفسهم لسيوف المسلمين ) فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجعٌ إلى عيش اليوم الأول.

فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عُمر رضي الله عنه ذلك فقال: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره.

* -لما أرسل أبو بكر الجيوش إلى الشام، قام هرقل بحشد الجيوش، ورأى إشغال كل طائفة من المسلمين بطائفة من عسكره لكثرة جنده بأضعاف عن أعداد المسلمين لتضعف كل فرقة من المسلمين عن الجيش الذي يستقبلها. فهابهم المسلمون وكاتبوا عمروَ بن العاص ما الرأي فأجابهم‏:

إن الرأي لمثلنا الاجتماع فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة، فإن تفرقنا لا يقوم كل فرقة له بمن استقبلها لكثرة عدونا‏.‏

وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم مثل جواب عمرو وقال‏:‏ إن مثلكم لا يؤتى من قلة وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب فاحترسوا منها فاجتمعوا باليرموك متساندين وليصلِّ كل واحد منكم بأصحابه.

فاجتمعوا، وجاءهم خالدٌ مددا من العراق وقادهم في تلك المعركة. وكان الروم قد اختاروا اليرموك موقعا جغرافيا لهم، وجاءتهم جيوش المسلمين فعسكرت على الطَّرِيق المفتوح لجيش الرّوم، فأدرك عمرو بن العاص بعبقريته أن الموقع الجغرافي ليس في صالح الروم. فنظر إلى جيوش الروم، وقال للمسلمين: "أيها الناس، أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير"

وهُزم الروم في اليرموك شر هزيمة وكانت فاتحة جلائهم عن الشام كله.

* ومن عبقريته العسكرية الجغرافية أيضا أنه ألح على عمر بن الخطاب في فتح مصر لأن بقاءها بيد الروم تهديد للشام، ولا استقرار للشام ومصر في أيديهم، كما أن خيراتها ستكون من أعظم العون للمسلمين وقد كان.

* أما على المستوى الفردي فقد كان جريئا في الحرب، حتى أن عثمان بن عفان ذو النورين حذر منه الفاروق رضي الله عنه فقال له: «إن عمرًا لجريء الجنان، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة فيعرض المسلمين للهلكة!»

ولم يحدث أنّ عمروا عرض المسلمين للهلكة بسبب اقدامه وفرط جرأته، فقد كان على عكس ذلك دائما، وقد منع المسلمين في غزوة ذات السلاسل من التوغل في أرض العدو خوفا من أن يكمن لهم العدو..

ولكنه عرض نفسه هو للهلكة بسبب جرأته تلك. ففي فتح الإسكندرية وفي احدى مرات الهجوم على أسوار الحصن تقدم وهو الأمير وقائد الجيش فشذ عن أصحابه مع ثلاث نفر فحوصروا داخل الحصن، فطلب منهم الروم أن يستأسروا فرفضوا، ثم اتفقوا على أن يخرج منهم واحد للمبارزة فإن غلب تركوهم ليخرجوا من الحصن.

فأراد عمرو الخروج للمبارزة، فمنعه صاحبه مسلمة بن مخلد، ووقف دونه وهو يقول له: «ما هذا؟ تخطئ مرتين فتشذ عن أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك، لا يدرون ما أمرك حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاءً على أصحابك، مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله، فخرج مسلمة فقاتل الرومي فقتله وخرجوا جميعا.

* وقصته المشهورة حين جازف بنفسه فذهب رسولا إلى أرطبون الروم كأنه جاء من عند أمير جيش المسلمين، وقد كان هو الأمير، دليل آخر على جرأة جنانه كما وصفه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وقد كان الأرطبون هو الآخر أريبا، فحين دخل عليه عمرو وكلمه ظن أنّ من أمامه ليس رجلا عاديا وأن من المكسب قتله، فأوعز إلى حراس البوابة بقتله عند خروجه، وفطِن عمرو لذلك لما رأى من حركة مريبة عند الباب، وقيل إن أحد العرب النصارى قد حذره لمّا رأه فعرفه وقال له: يا عمرو أحسنت الدخول فأحسن الخروج. فرجع عمرو إلى الأرطبون فقال له: إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت.

فقال الأرطبون: نعم، ثمَّ أرسل إلى الحرس بعدم التعرُّض له؛ طمعًا منه أن ينال من العشرة بدل الواحد، وخرج عمرو حتى إذا أمن قال (لا عدت لمثلها أبدا (.

وهذه القصة دليل آخر عن أن الرجل "عمرواً" لم يكن عاديا حتى بالنسبة إلى الأبطال الذين كانوا يملؤون جيوش المسلمين.

.

وكان رضي الله عنه حكيما وذا رأي سديد..

* -يقول رضي الله عنه: عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة، أي عليكم بجسام الأمور دون خسائسها.

* -ومن كلامه: العاقل يعرف خير الشرين.

* -ومن بليغ كلامه -رضي الله عنه- قوله: الرجال ثلاثة: رجل تام، ونصف رجل، ولا شيء.

أما الرجل التام فهو الذي كمل دينه وعقله.. فإذا أراد أن يقضي أمرًا استشار أهل الرأي فلا يزال موفقًا.

وأما نصف الرجل فهو الذي يُكمل الله له دينه وعقله. فإذا أراد أن يقضي أمرًا لم يستشر فيه أحدًا، وقال: أي الناس أتبعه وأترك رأيي لرأيه؟ فيصيب ويخطئ.

وأما الذي لا شيء فهو من لا دين له ولا عقل، فلا يزال مخطئًا مدبرًا...

والله إني لأستشير في الأمر حتى خدمي.

* -وقيل لعمرو بن العاص‏:‏ ما العَقْل؟ قال: الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان.‏

* -وقيل: إن معاوية سأل عمرو بن العاص من أبلغ الناس؟ فقال: أقلهم لفظاً، وأسهلهم معنى، وأحسنهم بديهة.

* -وقال - رضي الله عنه: الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل.

* -وقيل‏:‏ إنه رُئي وهو على بغلة هرمة، وهو إذ ذاك أمير مصر فقيل له‏:‏ أتركب هذه وأنت أمير مصر فقال‏:‏ لا ملل عندي لدابتي ما حملتني، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، إن الملل من كواذب الأخلاق‏.

.

وكان صاحب مروءة عالية وانصاف...

* قال الحسن البصري‏:‏ قال رجل لعمرو بن العاص‏:‏ أرأيت رجلًا مات رسول الله وهو يحبه أليس رجلا صالحًا قال‏:‏ بلى قال‏:‏ قد مات رسول الله وهو يحبك وقد استعملك، قال‏:‏ بلى فوالله ما أدري أحبًا كان لي منه أو استعانةً بي، ولكن سأحدثك برجلين مات وهو يحبهما‏:‏ عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر فقال الرجل‏:‏ ذاك قتيلكم يوم صفين قال‏:‏ قد والله فعلنا‏.‏

* ودخل عمرو بنُ العاص مكة فرَأى قوماً مِن قُريش قد تحلّقوا حَلقة فلما رَأوه رَموا بأبصارهم إليه فعَدل إليهم فقال‏:‏ أَحْسبَكم كنتم في شيء من ذِكْرِي قالوا‏:‏ أجل كنا نُمَاثِل بينكَ وبن أخيكَ هِشام أيّكما أفضل‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إنّ لهشام عليَّ أربعةً‏:‏ أُمه ابنة هِشام بن المُغيرة وأُمي من قد عَرفتم، وكان أحبَّ الناس إلى أبيه منِّي وقد عرفتم مَعْرفة الوالد، وأَسْلَم قبلي واستُشْهِد وبقيتُ‏.‏

.

وكان ذو فصاحة ومن أحسن الناس بيانا...

* قال مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر قال صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أبين أو قال أنصع ظرفًا منه ولا أكرم جليسًا ولا أشبه سريرة بعلانيةٍ منه.

* قال بعض المؤرخين‏:‏ إنه لما استقر عمرو بن العاص رضي الله عنه على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ أن صف لي مصر فكتب إليه‏:

* ‏ وَرَدَ كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر‏:‏ اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر يكنفها جبل أغبر ورمل أعفر يخط وسطها نيل مبارك الغزوات ميمون الروحات تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان يدر حلا به ويكثر فيه ذبابه تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم عجاجه وتعظمت أمواجه فاض على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته وطما في درته فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة وذمة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب ، فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء ، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء‏.

والذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل‏.

لما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ لله درك يا بن العاص‏!‏ لقد وصفت لي خبرًا كأني أشاهده

‏.‏

أما عن فضله:

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابْنَا العاصِ مؤمنان: عمروٌ وهشامٌ» )مسند أحمد. ج 13- ص409 -ح رقم8042 . صحيح الاسناد(

عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص» )كتاب الجامع الصحيح للسنن والمسانيد. ج16 – ص220. حسن لشواهده(

عَنْ طَلْحَةَ بن عبيدالله قَالَ»: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ» )المعجم الكبير للطبراني -ج1-ص115-حديث رقم 208. صححه الألباني.(

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مُحْتَبٍ بِحَمَائِلِ سَيْفِهِ، فَأَخَذْتُ سَيْفًا فَاحْتَبَيْتُ بِحَمَائِلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا كَانَ مَفْزَعُكُمْ إِلَى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ؟ " ثُمَّ قَالَ: " أَلَا فَعَلْتُمْ كَمَا فَعَلَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ الْمُؤْمِنَان" (مسند أحمد-ج29-ص344- حديث رقم 17810. إسناده صحيح على شرط مسلم.)

.

أما عن الفتنة التي وقعت بين الصحابة وكان هو طرفا شهيرا فيها، فإن الذي يريد أن يتبصر فيها عليه أولا أن يسمو إلى إيمان هؤلاء الرجال، وأن يتسامى إلى عقلياتهم وتفكيرهم ومكارم أخلاقهم ليرى كيف كانوا يَروْن الأمور، ولماذا اختلفوا ووقع بينهم ما وقع.

فإن لم يستطع فليحسن الظن بهم وهم لذلك أهل، وكل ما ورد عنهم خلافا لذلك فهو بلا ريب من أكاذيب الشيعة وتلفيقاتهم، وهل نكذب أحاديث ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل هؤلاء الصحابة ونصدق قصص رواها أكذب الناس وأكثرهم بغضا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك فإن عمروا ومعاوية كانوا آخر من انغمسوا في الفتنة وإن طال أمرها معهم بعد ذلك. فقد سبقهم في الفتنة الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

فمقتل خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه بهذه الطريقة كان زلزالا في أمة الإسلام لم يكن أكبر منه إلا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب من بعده. ولكنها كانت فتنة ولم يكن لها أبو بكر. وقد خفيت تلك الفتنة على كثير من الصحابة حتى اعتزلوها منهم رابع أربعة في الإسلام سعد بن أبي وقاص وغيرهم من كبار الصحابة، بل إن أكثر الصحابة لم يشهدوها واعتزلوا الفريقين.

فأمر الفتنة ينجلي للجميع بعد انقضائها، وقليل هم من يُبصرونها حين تغشاهم، ولولا ذلك لما سُميت فتنة.

فالزبير وطلحة رضي الله عنهما، وأم المؤمنين رضي الله عنها، ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين إنما اجتهدوا بما فعلوا وفيما وقع بينهم.

ولقد سبقت صِفين واقعةُ الجمل، والتي وقعت بالعراق بعد أن اتفق علي كرم الله وجهه مع الزبير وطلحة وأم المؤمنين رضي الله عنهم على التسكين ولزوم كلمة أمير المؤمنين، ولكن أهل الفتنة أشعلوا نار الحرب بين الفريقين خوفا من أن يتحد الجميع عليهم وقد علموا أن الجميع ومعهم علي كرم الله وجهه مجمعون على محاسبتهم ولكن مختلفون في التوقيت، فأشعلوا نار الحرب لكي يفسدوا هذا الصلح، وحاول طلحة رضي الله عنه إيقاف القتال وأخذ يقول وهو على دابته: «أيها الناس أنصتوا»، فلم ينصت له أحد فأهل الفتنة يريدون أن تزيد اشتعالا، فقُتل رضي الله عنه بسهم، وخرج الزبير رضي الله عنه من المعركة نادما فتبعه واحد من جيش عليّ فاغتاله، واستغاث بعض المسلمين بأم المؤمنين حتى تأتي وتنادي في المسلمين ليوقفوا الحرب لعلهم يستمعون لها توقيرا لها ولحُرمتها، فقد كانت واقعة الجمل هي أول فاجعة قتال يقع بين المسلمين بعضهم البعض في تاريخ الإسلام، وبدلا من أن تتوقف الحرب بقدومها ازدادت اشتعالا، فقاتل المسلمون أشد قتال حول أم المؤمنين وهي على الجمل.

وبالطبع وصلت تلك الأخبار كلها إلى معاوية وعمروا بالشام، وما كانت تزيدهم إلا إصرارا على موقفهم ووثوقا من أمرهم. كيف لا وهم يطالبون بما طالب به الزبير وطلحة وأم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، وفوق ذلك فإن معاوية كان يرى نفسه وليا لدم عثمان.

وهذا ليس انتصارا لهم ولاجتهادهم فيما حدث، لكن دفاعا عن أنهم كانوا يطلبون الحياة الدنيا بما فعلوا، كيف وكلهم جاهدوا بأنفسهم عشرات المرات في سبيل الله، يُعرّضون أنفسهم للموت في سبيله، وكلهم شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان أو دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما نحن إلا بعض حسنات جهادهم في سبيل الله تعالى ومنهم أهل مصر جميعا الذين كان عمرو مع الزبير وغيرهم من الصحابة والتابعين سببا في دخولهم الإسلام. وإنّ أحدنا لو أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ معشار ما قدّموا للإسلام.

لقد كان مقتل عثمان رضي الله عنه زلزالا وفتنة عظيمة اختلف فيها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مطالب بدم عثمان، وبين من يريد التسكين حتى تجتمع الكلمة، وبين معتزل لكلا الفريقين، ومع وجود أهل الفتنة في جيش عليّ رضي الله عنه زاد من صعوبة الخروج منها دون دماء.

وصدق من قال:

إن الفتنة إذا أقبلت حيرت العالِم وأعيته، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل وأطنب فيها بالكلام.

.

-لما مرض عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مرض الموت، وأحس بدنو الأجل غلبته العَبرة، وقال لابنه: كنت على ثلاث حالات عرفت نفسي فيها، كنت أول شيء كافرًا، فلو مت حينئذ لوجبت لي النار. فلما بايعت الرسول كنت أشد الناس حياء منه، حتى إني ما ملأت عيني منه قط، فلو مت حينئذ لقال الناس: هنيئًا لعمرو أسلم على خير ومات على خير.. ثم تلبستُ بعد ذلك بأشياء فلا أدري أعليَّ أم لي؟

ثم أدار وجهه إلى الجدار وهو يقول: اللهم أمرتنا فعصينا.. ونهيتنا فما انتهينا

ولا يسعنا إلا عفوك يا أرحم الراحمين.

ثم وضع يده في موضع الغلِّ من عنقه ورفع طرفَه إلى السماء وقال:

اللهم لا قويَّ فأنتصر.. ولا بريء فأعتذر.

وما أنا بمستكبر.. وإنما مستغفر، فاغفر لي يا غفار.

ولم يزل يرددها حتى فاضت روحه. رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

.

*قال الفضل ابن زياد سمعت أبا عبد الله يُسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟ فقال إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء. ما انتقص أحدٌ أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.