الذي دفعني إلى الكتابة عما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين منع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم: هو ما رأيته من بعض الدعاة الذين اتخذوا ما فعله رضي الله عنه حجة لهم في تغيير الأحكام بتغيُّر الواقع!! واتخذوا ذلك دليلا وحجة لهم في المداهنة أو القبول أحيانا بما يضاد عقيدة الإسلام، ملاينة منهم للواقع الشديد المحيط بهم، وتجنبا للجمود والتحجر في حركة الدعوة كما يظنون.
وبالرغم من أن ما فعله عمر رضي الله عنه قد أقره عليه أبو بكر رضي الله عنه، إلاّ أن حجّة تغيُّر الحكم بتغيُّر الواقع في هذا المسألة لم تكن حجة مستقيمة عندي، فكيف يمنع عمر رضي الله عنه نصيبا حَكمَ به الله تعالى به في قرآنه لفئة من الناس بحجة تغيُّر الواقع، وقد أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النصيب؟!
فلو كانت هذه هي الإجابة الدقيقة لِمَا فعل عمر رضي الله عنه لكانت دليلا يجوز الاحتجاج به على إمكانية تغيُّر الأحكام الثابتة في القرآن بتغيُّر الواقع، وهذا ما لم يكن أبدا في عقيدة التوحيد، بل إن العقيدة تنبني أساسا على عدم القبول أبدا بأي تنازل عما جاءت به، وأنذرت وأوعدت على ذلك أشد الوعيد، كما قال الله تعالى: وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) [الإسراء: ٧٤ - ٧٥].
فالأصل الأصيل هو أن لا أحد يجوز له أن يغير حُكما من القرآن برأي رآه، وإن كان عمر ومعه أبو بكر رضي الله عنهما، وحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم إلا بوحي، ولا يُرخِّص إلا بوحي، وما كان يغير ولا يُبدل شيئا إلا بوحي وعلمٍ من عند ربه، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌۭ يُوحَىٰ (٤) [النجم: ٣ – ٤]، وليس لأحد بعده ذلك، وكل من بعده متبع متلمس للصراط المستقيم.
إذاً لا يمكن أبدا أن يكون ما فعله عمر رضي الله عنه يندرج تحت باب تغيُّر الحُكم بتغيُّر الواقع، فالزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وقد حدد الله مستحقيها في قرآنه الكريم، وليس لأحد أن يَحْرِم مستحِقا نصيبَه من الزكاة مهما كان شأنه، وهذا هو بيت القصيد!!!!
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة لفئات حددها سبحانه في كتابه العزيز فقال تعالى:
۞ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: ٦٠].
يقول ابن كثير: لما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات، بيّن تعالى أنه هو الذي قسَّمها وبيّن حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكِلْ قَسْمها إلى أحد غيره، فجزَّأها لهؤلاء المذكورين، كما جاء في الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي –رضي الله عنه - قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك).(حديث حسن)
فمنْ هذا الذي يتجرأ أن يُخرج فئة من مستحقي الزكاة ممن قسَم الله لهم!!؟ إذاً فما تفسير ما فعله عمر، وأقره عليه أبو بكر رضي الله عنهما؟
إن ما فعله عمر رضي الله عنه يتضح تفسيره في سؤال آخر نسأله: هل الفقير الذي قسَم الله له نصيبا من الزكاة، لو أتى في العام الذي بعده وقد أغناه الله، أيكون له الحق في الزكاة؟
والإجابة بالإجماع: لا؛ وهذا بالضبط ما ارتآه عمر حين كتب أبو بكر للمؤلفة قلوبهم بما اعتاد أن يُفرض لهم كل عام من الزكاة، وهو أنهم لم يعودوا مستحقين للزكاة، فرفض أن يُمضي كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه رأى في ذلك باطلا عليه ألا يُمضيه. ولو كان الأمر مجرد رأي رآه في تغير الواقع ما كان عمر رضي الله عنه ليعصي كتاب الخليفة بهذا الشكل، وهو يعلم حق الخليفة وحق طاعته. وإنّ أبا بكر رضي الله عنه حين أمضى ما فعل عمر، فلأنه فَقِهَ ما رآه عُمر فرآه حقا فأمضاه. وإنّ ما فعله عمر رضي الله عنه ليس بغريب عنه، فإنه رضي الله عنه معروف بما كان ينفرد به من رأي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نزل القرآن برأيه أحيانا، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) رواه الترمذي.
لقد كان المؤلفة قلوبهم حين أسلموا رجالا حديثي عهدٍ بالإسلام، وهم أسياد على قومٍ ما زالوا أيضا حديثي عهد بالإسلام، وبرغم هزيمة الإسلام لهم ثم إسلامهم، إلا أنهم لحداثة دخولهم الإسلام وكثير من قومهم ما زال لهم قدرة على افتعال مشاكل كثيرة للمسلمين، وكان المسلمون في غنى عنها في هذا الوقت الذي يحتاجون فيه مزيدا من الوقت لتثبيت أركان دولتهم في أرض الجزيرة، ولذلك فرض الله من الزكاة والصدقة ما يحفظ لهم دينهم في أنفسهم التي ما زالت متطلعة للدنيا، ولكن لما رأى عمر رضي الله عنه أن كل ذلك قد تغير، وأن الإسلام قد استقرت أركانه، وأن هؤلاء المؤلفة أنفسهم قد مضى عليهم وعلى أقوامهم عهد في الإسلام، ولا يُخشى من ارتدادهم أو طاعة أقوامهم لهم إن أرادوا شرا بالإسلام، رأى أن أسباب فرض الزكاة لهم قد انتهت، وقد أصبحوا غير مستحقين لها، ولقد رأينا بعد ذلك أبا سفيان وسهيل بن عمرو وغيرهم من المؤلفة قلوبهم يجاهدون في سبيل الله، ومنهم من استشهد في سبيل الله تعالى.
ورب قائل يقول: إن ما تم شرحه هو تعبير بشكل آخر عن تغير الواقع!! وظاهريا يبدو هذا صحيحا، ولكن هل عدم إعطاء الزكاة للفقير بعد غناه حجة لمن يقول بتغيُّر الأحكام بتغيُّر الواقع، ثم يصبح ذلك دليلا عنده ليغيِّر في أحكام ثابتة ما ينبغي له أن يغيرها، ويقبل بأمور ما ينبغي له أن يقبلها؟ يقينا لا، ولا أظن أحدا يستطيع أن يأخذ حُجة حرمان الفقير من الزكاة بعد غناه دليلا على ذلك، وهذا أيضا هو الحال في الذي فعله عمر رضي الله عنه مع المؤلفة قلوبهم ففهمه أبو بكر فأقره.
وإن الفرق عظيم بين أن نقول: إن عمر رضي الله عنه لم يعطهم الزكاة لأنه رأى أنهم لم يعودوا مستحقين لها، وبين أن نقول: إنه لم يعطهم الزكاة لأن الواقع قد تغير، مع أن الأمر ظاهريا واحد، ولكن ما يترتب عليه هو الفرق بين الحق المبين والحق الذي فيه فتنة، كالفرق بين الطبيب الذي يقول عن مريضه أن به التهابا بالبطن، وبين الطبيب الآخر الذي يقول إن به التهابا بالزائدة الدودية مع أنها بالبطن، ولكن شتان بين قول فصل وقول يتيه فيه المرء.
ويكفي أنني سمعت امرأة علمانية وهي تجادل أحد الدعاة في أنّ الإسلام يجيز أن نغير ونبدل في الأحكام بما يناسب واقعنا وعصرنا، وذكرت في ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه مع المؤلفة قلوبهم.
ولذلك كان ينبغي إيضاح هذه المسألة، مثلما استدام العلماء يوضحونه حول حادثة إيقاف حد السرقة عام الرمادة بأنها لم تكن تعطيلا لحكم من أحكام الله، بل لأن لحد السرقة شروطا يجب أن تُستوفي قبل تطبيق الحد على السارق، فإن لم تكتمل الشروط فلا حد عليه، ومنها السرقة بسبب الجوع الشديد وشدة الحاجة.
هذا ما كان ينبغي إيضاحه لبعض الدعاة خاصة، ولعامة الناس من بعدهم، ولكيلا يُترك للعلمانيين ومن على شاكلتهم شبهة يخدعون بها أنفسهم وغيرهم.
ونعود فنقول: إن الأصل الأصيل هو أنه لا يجوز لأحد أن يغير حكما ثابتا في القرآن برأي رآه، ولا أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه. ولا فضل لأحد فوق ذلك ولا كرامة، وإن كان هو من هو.